بدأ عدو صامت يشق طريقه إلى جنوب العراق في السنوات الأخيرة، ولم تتمكن المستويات المنخفضة لمياه نهري دجلة والفرات التي تتلاقى في الأراضي المنخفضة في البصرة في صد موجة مياه المد والجزر من مياه البحر المالحة التي تتجه نحو الشمال. تدمر هذه المياه المالحة في طريقها عددا لا يحصى من بساتين النخيل وكل شيء آخر يعين الناس في معيشتهم مثل أشجار الحمضيات والانواع الزراعية الأخرى التي تمكنت من الازدهار لآلاف السنين وذلك بفضل الظل الذي توفره أشجار النخيل وحمايتها من أشعة الشمس الحارقة.

عمل عدنان خضير الصنافي من قضاء البحار في اقصى جنوب  محافظة البصرة في بساتين النخيل طوال حياته كما فعل أجداده منذ أجيال لقد وجد عدنان نفسه وأمثاله امام خيارين : أما البقاء والاستمرار بمفردهم الامر الذي ادى في كثير من الاحيان الى خسائر فادحة للمزارعين او المغادرة بحثا عن سبل اخرى للعيش  في مكان آخر.

قد  يحاول عدنان كلا الخيارين ولكنه لم يتخذ اي إجراء لحد الآن، فمن المحتمل أن يكون هذا هو المصير الحتمي للكثيرين في السنوات القادمة حيث تصبح الظروف اكثر اضطرابا بسبب تغير المناخ في العراق.

تترك مياه البحر خلفها قشرة بيضاء على أي سطح تلامسه مما يدل على كثافة الملوحة – الصورة من المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023/ رابر عزيز
إن انخفاض مستويات المياه في نهري دجلة والفرات لم يسمح لمياه البحر بالارتفاع فحسب، بل أدى أيضًا إلى جفاف العديد من الجداول مثل رصيف قوارب الصيد هذا. الصورة © المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023/ رابر عزيز

يتذكر عدنان ويقول "كانت هذه الأرض جنة، بسبب كثافة الاشجار لا يصل ضوء الشمس إلى الأرض وفي ظلها زرعت أشجار الحمضيات.  كان لدينا أكثر من 60 نوعا من التمور عالية الجودة، مثل البرحي والصاير والجنتار والبلياني.

 ومع زيادة الملوحة رأيت كيف ماتت أشجاري وتدهورت الأرض تدريجياً. واصلت المحاولة وبقيت ازرع  كل عام، لكن باءت جهودي بالفشل وخسرت حوالي 45 مليون دينار عراقي (30,000 دولار أمريكي) ".

يقف عدنان أمام الأرض التي عليه بيعها بسبب تردي التربة الناجم عن الملوحة-الصورة من المنظمة الدولية للهجرة في العراق/ رابر عزيز

ان قصة عدنان ليست الوحيدة حيث يشارك عدد  لا يحصى من المزارعين  نفس  المصير من حيث الخسارة والحسرة مع  خيارات محدودة جدا أمامهم

ويضيف: "كل ما تبقى الآن هو جذوع وفروع ميتة".

تعد اهوار الجبايش في محافظة ذي قار من أكثر المناطق تضررا من تغير المناخ حيث يتجه التصحر بمعدل ينذر بالخطر. الصورة من المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023 – أنجام رسول

وفي الشمال من محافظة ذي قار، يُعزى جفاف الأهوار الى انخفاض مستويات المياه في نهري دجلة والفرات وانخفاض هطول الأمطار  وبناء السدود على الأنهار أو روافدها في دول الجوار في تركيا  وإيران وغياب الإدارة المستدامة للموارد المائية محليا. اشتهرت هذه الأهوار بتنوعها البيولوجي ومجتمعاتها المستدامة وماشيتها وممارساتها في صيد الأسماك والتي يعود تاريخها إلى بلاد ما بين النهرين القديمة.

أمضى الدكتور وسام طفولته كلها في أهوار الجبايش التي أصبحت مهمته في الحياة الحفاظ عليها - الصورة من المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023/ أنجام رسول

يقول الدكتور وسام كاظم صنكور الأسدي  : "تسببت ندرة المياه والملوحة في تردي النظام البيئي والتنوع البيولوجي للحيوانات والنباتات في هذه المنطقة» .  ولِدَ دكتور وسام ونشأ في أهوار الجبايش، ويعمل الآن مع منظمة المناخ الأخضر العراقية، وهي منظمة غير حكومية محلية متخصصة في الحفاظ على الأهوار وعلى بناء القدرة على التكيف في مجتمعات الأهوار لمواجهة تغير المناخ .

ويضيف: “أنخفض عدد الجاموس والأسماك بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مما تسبب في فقدان الكثير من الأشخاص لسبل عيشهم". "في غضون 10 سنوات، ستتغير المناظر الطبيعية للأهوار إلى الأبد. وبالفعل يتوضح ذلك  أمام أعيننا... الأهوار تنقرض تدريجياً."

لقد تحولت منطقة الجبايش من اهوار واسعة ومورقة إلى مجرد جداول ضحلة تحيط بها الأراضي في الوقت الحاضر - الصورة من المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023/ أنجام رسول

غير ان تأثير تغير المناخ أعمق من ذلك. وتتزايد الهجرة من الريف إلى الحضر استجابة للتدهور البيئي والمخاطر الطبيعية بمعدل ينذر بالخطر حيث تبحث الأسر عن عمل في المناطق الحضرية أو تضطر إلى إرسال أطفالها للعمل في المدن للتغلب على فقدان الدخل.

يقول رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في العراق، جيورجي جيغاوري: "إن تغير المناخ في العراق ليس مجرد مشكلة بيئية. ومن المحتمل أن تتحول إلى أزمة إنسانية. فهو يغذي الاستغلال ويساهم في التنقل القسري. وعلينا أن نعمل الآن لتجنب آثار تغير المناخ وتقليلها ومعالجتها. إن عواقب التقاعس عن العمل وخيمة بالنسبة لعدد لا يحصى من الناس".

سَجلَ برنامج المنظمة الدولية للهجرة لتتبع حالات الطوارئ المناخية في العراق IOM’s Climate Emergency Tracking نزوح أكثر من 130,000 شخص بين الأعوام 2016 وأيلول 2023 بسبب الآثار السلبية لتغير المناخ في مناطقهم الأصلية.  إن المواقع العشرة التي تم تقييمها في ذي قار هجرها ساكنيها بالكامل. ووفقا لتقييم المنظمة الدولية للهجرة الحديث لمدى التأثر بتغيير المناخ  Climate Vulnerability Assessment  والذي نُشر في شهر تشرين الثاني 2023 فإن معظم تلك المواقع المهجورة تقع في محافظة ذي قار وخاصة في قضائي الناصرية وسوق الشيوخ.

نزوح نسبة من السكان الأصليين بسبب العوامل البيئية. المصدر: المنظمة الدولية للهجرة في العراق، دوافع النزوح الناتج عن تغير المناخ في العراق: Climate Vulnerability Assessment

يعمل الشركاء الوطنيين والمحليين  بشكل وثيق مع المنظمة الدولية للهجرة في العراق لمعالجة التأثير السلبي لتغير المناخ منذ عام 2018.    نجحت مشاريع البنية التحتية للمياه التابعة للمنظمة الدولية للهجرة في ربط أكثر من مليون شخص بمياه آمنة التي بإمكانهم الحصول عليها لأغراض الشرب والزراعة. وأدى الدعم المقدم من قبل المنظمة للمشاريع الزراعية الصغيرة والمتوسطة الموجهة نحو الاستدامة إلى خلق أكثر من 1,600  فرصة عمل وساعد تمويل المشاريع التجارية وحزم التنمية 2,200 من صغار المزارعين على التكيف بشكل أفضل مع تغير المناخ.

المنح التي يحصل عليها المزارعون في جنوب العراق تمكنهم من الاستمرار في انشطتهم الزراعية وأيضا شراء المعدات اللازمة للتحول نحو الزراعة الذكية من أجل التكيف مع نقص المياه - الصورة من المنظمة الدولية للهجرة في العراق 2023/ رابر عزيز
يعمل جاسم محمد في الزراعة منذ أن كان عمره 15 عاما ، عملت عائلته في الزراعة وهو واحد من القلائل الذين اكتشفوا من خلال دعم المنظمة الدولية للهجرة طرق للتكيف مع ندرة المياه والملوحة في الأهوار - الصورة المنظمة الدولية للهجرة 2023/ أنجام رسول
لقطة من منطقة الزبير، البصرة، تظهر الدور الرئيسي الذي تلعبه الزراعة الذكية للاستجابة لتغير المناخ: تحول الجزء لصحراء، والجزء السفلي يحافظ على التربة من التدهور، بدعم من المنظمة الدولية للهجرة. الصورة © المنظمة الدولية للهجرة / أنجام رسول، 2023

حجم التأثير أكبر بكثير مما يمكن لأي منظمة عكسه. وعلى هذا الاساس يُعد  التعاون بين المجتمع الدولي والشركاء الحكوميين والمجتمع المدني والقطاع الخاص و المجتمعات المحلية المتنوعة أمر ضروري حتى تتمكن حكومة العراق من تنفيذ استراتيجيتها للعمل المناخي.

أن الاستثمارات في البنية التحتية الذكية مناخيا والنظم والسياسات العادلة لإدارة الأراضي والمياه وفرص كسب العيش المستدامة والمتنوعة وكذلك نظم الإنذار المبكر والتأهب للكوارث ضرورية للحد من أوجه الضرر وبناء القدرة على التكيف على الصعيدين المحلي والوطني.

ورغم أن الواقع قد يبدو قاتما بالنسبة لوضع الزراعة  في العراق، إلا أن هذه ليست قصة خسارة. إن المعركة لم تنته بعد، ولم يفت الأوان بعد للتخفيف من تأثير تغير المناخ في العراق – معاً . وقبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28)، الذي يعتبر صرخة لبذل الجهود على نطاق أوسع وأكثر تضافرا على الصعيدين الوطني والإقليمي. لأن هذه ليست أزمة محلية، ولكنها أزمة عالمية، وتتطلب اتخاذ إجراءات فورية.